28/08/2023 - 14:06

العلاقات بين الفلسطينيّين في فلسطين التاريخيّة | فصل

العلاقات بين الفلسطينيّين في فلسطين التاريخيّة | فصل

غلاف كتاب «العلاقات بين الفلسطينيّين في فلسطين التاريخيّة...» (2023)

 

أصدر «مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة والتطبيقيّة» كتابًا بعنوان «العلاقات بين الفلسطينيّين في فلسطين التاريخيّة: ديناميّات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة»، من تحرير مهنّد مصطفى، المدير العامّ للمركز. تجدر الإشارة إلى أنّ فصول الكتاب عبارة عن أوراق بحثيّة قُدِّمَتْ في المؤتمر السنويّ لـ «مدى الكرمل» (2023)، بدعم من «مؤسّسة روزا لوكسمبورغ».

يحاول الكتاب طرح مقاربات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة لمنظومة العلاقات بين الفلسطينيّين على طرفي الخطّ الأخضر، ويبدأ بتمهيد يضع الإطار العامّ، وعلى وجه التحديد ذاك السياسيّ منه، لعلاقة الفلسطينيّين المُجَنَّسين إسرائيليًّا مع المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ من حيث المكانة والدور. ثمّ يقدّم استطلاعًا يفحص مواقف الفلسطينيّين المُجَنَّسين إسرائيليًّا تجاه منظومة العلاقات مع الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967، في الجوانب السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، علاوة على رصد مواقفهم من مكانتهم القوميّة والمدنيّة في السياق الإسرائيليّ.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة تمهيد الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

تمهيد

ترمي الورقة الحاليّة إلى تتبّع آثار المواقف والتصوّرات السياسيّة للتيّارات الأيديولوجيّة - السياسيّة في المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في الداخل، بشأن المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ في مرحلة ما بعد اتّفاق أوسلو. تحمل هذه الـمهمّة المعرفيّة كثيرًا من الوعور البحثيّة، أهمّها غياب إجماع على مشروع وطنيّ فلسطينيّ واحد، وهذا ينعكس على تباينات المواقف السياسيّة والأيديولوجيّة في الداخل من هذا المشروع أو هذه المشاريع. بناء عليه؛ استخدام التعبير ’تتبّع آثار‘ لم يكن من قبيل المصادفة، فثمّة مواقف للتيّارات السياسيّة لا تزال في طور التشكّل والتطوّر من المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ ودورها فيه، وهنالك نقاشات داخل التيّارات السياسيّة نفسها حول كُنْه المشروع الوطنيّ؛ فالتباين ليس بينيًّا فحسب، بل هو داخليّ كذلك، وهو تباين ناتج من تطوّر المواقف أكثر ممّا هو ناتج من تناقضها الداخليّ.

على ضوء هذا، تقترح الورقة قراءة التناقضات الظاهرة على السطح، في مواقف التيّارات السياسيّة من المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ ودورها فيه، باعتبارها ديناميكيّات أيديولوجيّة داخليّة وبينيّة لا تناقضات سياسيّة بالضرورة. وتقصد الورقة بالديناميكيّات الأيديولوجيّة تراجُع السياسيّ وسلطان الأيديولوجيا على مواقف التيّارات السياسيّة، على الأقلّ على مستوى الخطاب. أسهم سلطان الأيديولوجيّ، في بعض الأحيان، في تجاوز سقف المواطَنة الإسرائيليّة، إمّا استئنافًا عليها أو تطويرًا لها في سياق الدولة الواحدة أو الدولتين. زد على هذا أنّ التطوّر المهمّ الحاصل في مواقف أغلب التيّارات السياسيّة هو تحرّرها من سياق المواطَنة الإسرائيليّة في تعاطيها الأيديولوجيّ مع المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ (نحو: حلّ الدولة الواحدة؛ حلّ الجامعة الإسلاميّة؛ حقّ العودة)، مع تأكيد أنّ هذا التحرّر يتعلّق بالموقف والتصوّرات المستقبليّة للمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وموقع فلسطينيّي الداخل فيه، وليس للدور السياسيّ والنضاليّ لهذه التيّارات، فدورها لا يزال ملتصقًا بسياق المواطَنة، وكلّ العمل السياسيّ والتنظيم السياسيّ للفلسطينيّين في الداخل يجري في إطار المواطَنة. ويظهر سلطان الأيديولوجيا في تصوّر المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ المفضّل للتيّارات السياسيّة، وفقًا للخلفيّة الأيديولوجيّة لكلّ تيّار، بينما يظهر السياسيّ في تحديد دورها في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، على نحو لا يتجاوز حدود المواطَنة الإسرائيليّة، مع محاولتها توسيع مساحة هذه المواطَنة وجوهرها، من خلال طرح إشكال الدولة اليهوديّة.

قبل توقيع اتّفاق أوسلو، وخلال مفاوضات مدريد، أيّدت غالبيّة الفلسطينيّين في الداخل الوفد الفلسطينيّ في هذه المفاوضات، وتماهوا مع المطالب الفلسطينيّة في إقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، تكون عاصمتها القدس الشرقيّة. في هذا الصدد، أعلن رئيس بلديّة الناصرة الأسبق، توفيق زيّاد، على الملأ، في رسالة وجّهها إلى أعضاء الوفد الفلسطينيّ، أنّهم هم مَنْ يمثّلون العرب في إسرائيل لا رئيس الوزراء إسحاق شامير (Rouhana, 1997, p. 76). استمرّ دعم الأحزاب العربيّة آنذاك للمفاوضات في واشنطن، وبرز التوجّه العامّ الّذي مفاده أنّ ما هو مقبول على الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة مقبول كذلك على الجماهير العربيّة، وإن جاء ذلك على حساب الجماهير العربيّة في الداخل (المصدر السابق).

أنتجت فترة ما بعد أوسلو خطاب الدولة اليهوديّة خطابًا سياسيًّا نضاليًّا (...) يضع جوهر الدولة متغيّرًا مركزيًّا في تحديد مكانة فلسطينيّي الداخل القوميّة والمدنيّة...

أشار الكثير من الأبحاث إلى هامشيّة فلسطينيّي الداخل في خطاب الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ولا سيّما في مرحلة ما بعد النكبة الفلسطينيّة، حين تبلورت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وحتّى الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، دون مشاركة وتأثير كبيرين للفلسطينيّين في إسرائيل (بشارة، 1998، ص 123-135). وظهرت قطيعة في التصوّرات السياسيّة والأدوات النضاليّة، وحتّى في مفهوم الهويّة الوطنيّة بين الفلسطينيّين في إسرائيل وسائر فئات الشعب الفلسطينيّ (Agbaria & Mustafa, 2012). بينما شهدت فترة ما بعد أوسلو وعيًا أكبر في صفوف التيّارات السياسيّة - الأيديولوجيّة لأهمّيّة دورها في المشروع الوطنيّ ردّ فعل على تهميشها في المفاوضات، وتهميش قضاياها الّتي هي جزء من القضيّة الفلسطينيّة (حيدر، 1997، ص 221-222)، وأنتجت فترة ما بعد أوسلو خطاب الدولة اليهوديّة، خطابًا سياسيًّا نضاليًّا يتجاوز الكتابات الأكاديميّة النظريّة حول النظم السياسيّة؛ ليكون خطابًا يضع جوهر الدولة متغيّرًا مركزيًّا في تحديد مكانة فلسطينيّي الداخل القوميّة والمدنيّة. إذن، لقد أنتجت فترة ما بعد أوسلو مسارين يبدوان متناقضين للوهلة الأولى، إلّا أنّهما متكاملان في جوهرهما، وهما: ازدياد أهمّيّة تعزيز دور الفلسطينيّين في الداخل في المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ من جهة، وتعزيز خطاب المواطَنة والقوّة الكامنة فيها من جهة ثانية.

تعزّزت أهمّيّة الفلسطينيّين في الداخل في المسألة الوطنيّة، كحالة تتجاوز التضامن والمساعدات الإنسانيّة على نحوِ ما تجلّت في الانتفاضة الأولى، إلى محاولة للتأثير المباشر في المشروع الوطنيّ. ظهر ذلك في تعبيرات كثيرة، فمثلًا بدأت الحركة الإسلاميّة مشروعها العمليّ للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، وتعزيز صمود أهل القدس، وبذلك تجاوزت الحركة الإسلاميّة مشروعها للدفاع عن المقدّسات داخل الخطّ الأخضر وصيانتها؛ المشروع الّذي طغى على نشاطها في هذا الصدد منذ أواخر الثمانينات حتّى منتصف التسعينات، إلى الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، ودعم أهالي القدس. جاء ذلك - في جزء منه - ردًّا على تهميش قضيّة القدس في المفاوضات، وتأجيلها حتّى الوضع النهائيّ، والرضوخ لمطالب الاحتلال بإبقاء السيطرة عليها. وقبل ذلك، برز دور القائمتين العربيّتين في الكنيست («الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة»، و«الحزب الديمقراطيّ العربيّ» - القائمتين اللتين بخمسة أعضائهما أُطْلِق عليهما «الكتلة المانعة») في دعم حكومة رابين من الخارج؛ من أجل تيسير الـمضيّ في تنفيذ اتّفاق أوسلو. وكان للتجمّع دور كبير في نقده المنهجيّ لاتّفاق أوسلو، متواصلًا في ذلك من تيّارات فلسطينيّة عارضت اتّفاق أوسلو، ودور رياديّ في تحويل خطاب الدولة اليهوديّة، من تداوله النظريّ في الأروقة الأكاديميّة إلى خطاب سياسيّ حزبيّ، يبيّن التناقض بين طابع الدولة ومكانة الفلسطينيّين القوميّة والمدنيّة، وهو ما ألقى بظلاله لاحقًا على الخطاب السياسيّ في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة.

في هذه الفترة، تعزّزت عمليّات التواصل والتفاعل على المستوى السياسيّ الحزبيّ على جانبي الخطّ الأخضر، وأُحْيِيَت ذكرى النكبة لأوّل مرّة عبر مسيرة العودة في عام 1998، وبدا الخطاب السياسيّ واضحًا تجاه قضايا المشروع الوطنيّ ومركّباته (كحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيّين - على سبيل المثال). وقد كان للتيّارات السياسيّة في الداخل دور في تعميق الوعي في الحركة الوطنيّة؛ لرفض الطلب الإسرائيليّ بالاعتراف بإسرائيل دولةً يهوديّة، شرطًا مسبقًا لإنهاء الصراع، ومعارضة مشروع ضمّ المثلّث أو التبادل السكّانيّ جزءًا من الحلّ النهائيّ. يمكن القول إنّ المرحلة الّتي أعقبت اتّفاق أوسلو وفشله أثْرت الخطاب والعمل السياسيّين لدى معارضي الاتّفاق ومؤيّديه على حدّ سواء.

علاوة على ذلك، شكّل اتّفاق أوسلو صدمة للفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر، من جهة، اعتبر «الحزب الشيوعيّ» - الجبهة أنّ الاتّفاق هو تأكيد توجّهه السياسيّ منذ عقود؛ لحلّ الصراع عبر المفاوضات وحلّ الدولتين، والكتلة المانعة لم تكن خروجًا عن الخطّ السياسيّ للجبهة في هذا الصدد. ومن جهة أخرى، كشف الاتّفاق الموقع الحقيقيّ للفلسطينيّين في الداخل من المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، فهم ’مواطنون إسرائيليّون‘ فقط، وخارج المشروع الوطنيّ، وأدّى ذلك إلى نقد إطار المواطَنة القائم، ونقد المشروع السياسيّ المتشكّل بناء على المفاوضات في الوقت نفسه. جاء تأسيس «التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ»، وانقسام «الحركة الإسلاميّة» و«أبناء البلد»؛ نتيجة وضوح وجهة كلّ من «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» وإسرائيل ومشروعهما؛ أي تهميش فلسطينيّي الـ48؛ ممّا أعاد تشكيل الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر.

تشير هذه التغييرات إلى تطوّر في الموقف من المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ على نحوٍ بالغ، وإلى عدم وضوح أو عدم رغبة في تحديد دور الفلسطينيّين في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ومؤسّساتها، وربّما تأسيس السلطة الفلسطينيّة، وتهميش دور «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، أسهما في غياب تعريف هذا الدور وتحديده؛ لتباين المواقف منها. وتوضّح مقولات مثل "العلاقة بالحركة الوطنيّة يجب أن تكون على أساس التكافؤ لا التبعيّة"، كما أشار إلى ذلك محمّد بركة (كلّ العرب، 2011)، أو على أساس "التواصل لا الوصاية"، كما أشار الشيخ رائد صلاح (2015، ص 4)، أو ضمن التطوّر المطلوب الّذي أشار إليه عزمي بشارة؛ في أن "تتحوّل الحركة السياسيّة للمواطنين العرب في إسرائيل بمجملها إلى حركة وطنيّة فلسطينيّة، عند ذلك تصبح العلاقة بالسلطة الفلسطينيّة والمجتمع الفلسطينيّ علاقة تفاعل حقيقيّة، تتجاوز علاقة التضامن الرمزيّ والإملاءات الخارجيّة" (1998، ص 134-135). توضّح هذه المواقف الحذرة من المضيّ نحو تحديد دور تنظيميّ واضح في إطار مؤسّسات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة؛ دور يتجاوز الموقف السياسيّ الناقد أو الداعم لها. وتشير هذه المواقف، وقتذاك على الأقلّ، في الوعي أو في اللاوعي؛ في المنطوق أو اللامنطوق، إلى خصوصيّة الفلسطينيّين في الداخل عن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ومشروعها الوطنيّ، وإلى الأهمّيّة الّتي توليها التيّارات السياسيّة داخل إسرائيل في الحفاظ على مساحة من الاستقلاليّة، وعلى مسافة عن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، على نحو متفاوت بطبيعة الحال، حسب كلّ تيّار سياسيّ - أيديولوجيّ في المجتمع الفلسطينيّ في الداخل.

بناء على قراءة الخطاب والسلوك السياسيَّيْن للأحزاب والحركات السياسيّة، يمكن أن نميّز، بصورة مجرّدة، الدور الّذي تراه هذه التيّارات لذاتها، دون نفي التقاطعات بين هذه الأدوار أو احتكارها من طرف على نحو مطلق، فيمكن القول إنّ «الحزب الشيوعيّ» - الجبهة يرى دوره في الساحة الإسرائيليّة، في التواصل مع المجتمع الإسرائيليّ والقوى اليهوديّة لدعم المشروع السياسيّ الفلسطينيّ المتمثّل في حلّ الدولتين، بينما ترى «الحركة الإسلاميّة» برئاسة الشيخ رائد صلاح، قبل حظرها، دورها في دعم صمود الشعب الفلسطينيّ دون التواصل الفاعل مع مؤسّساته الوطنيّة التاريخيّة - دونما رغبة في التأثير في المجتمع الإسرائيليّ - وتبنّي قضيّة المسجد الأقصى المبارك؛ فشعار ’الأقصى مسؤوليّتي‘ يضع قضيّة الأقصى المبارك جزءًا من مشروع «الحركة الإسلاميّة»، وليس مجرّد تضامن معه. أمّا «التجمّع» فيرى أنّ دوره يتمثّل في نقد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، والتأثير في خطابها وتوجّهاتها من التسوية والمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وتوضيح التناقض بين الدولة اليهوديّة والمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، في سياق الجماهير العربيّة في الداخل.

تدّعي الورقة أنّ المرحلة الّتي أعقبت اتّفاق أوسلو أحدثت تحوّلًا في الخطاب السياسيّ لدى الفلسطينيّين في الداخل، في تصوّره للمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، دون تطوّر موازٍ (...) على دورهم في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة...

تدّعي الورقة أنّ المرحلة الّتي أعقبت اتّفاق أوسلو أحدثت تحوّلًا في الخطاب السياسيّ لدى الفلسطينيّين في الداخل، في تصوّره للمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، دون تطوّر موازٍ بالوتيرة نفسها على دورهم في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. أحدثت التغييرات السياسيّة الّتي نتجت عن اتّفاق أوسلو تعدّديّة في تصوّرات المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ حسب خلفيّة التيّار السياسيّ الأيديولوجيّة. إلى حين مرحلة أوسلو، تمحور الخطاب السياسيّ حول المشروع الوطنيّ بين اتّجاهين كبيرين: الاتّجاه الّذي يتبنّى حلّ ’دولتين لشعبين‘ («الجبهة» و«الحزب الشيوعيّ»؛ «الحركة التقدّميّة»)، وآخر يتبنّى حلّ الدولة الواحدة كما نظّر لها «الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ»، «أبناء البلد». عبّرت هذه التعدّديّة عن تعدّديّة أيديولوجيّة في المجتمع الفلسطينيّ، نتجت عنها تصوّرات لمشاريع وطنيّة فلسطينيّة مختلفة. كشفت هذه التحوّلات قصور حلّ الدولتين لشعبين، وتكريسه للتفوّق الإثنيّ - القوميّ اليهوديّ على المواطنين الفلسطينيّين في دولة يهوديّة، وقد كشف تفوّق الجغرافيا والديموﭽـرافيا على حلّ الدولة الوطنيّة الفلسطينيّة الواحدة، كما تبنّته حركة «أبناء البلد» على نحو مثابر حتّى عام 1995.

أحدث اتّفاق أوسلو ’أسلمة‘ في الخطاب السياسيّ والفكريّ لـ «الحركة الإسلاميّة»، وربّما أدّت هذه الأسلمة إلى انشقاق هذه الحركة، ومسألة الخلاف بشأن المشاركة في انتخابات الكنيست كانت بين مَنْ أراد إخضاعها للنصّ الدينيّ – الشرعيّ، ومَنْ أراد مناقشتها في السياق السياسيّ بعيدًا عن النصّ، مستحضِرًا التجربة التاريخيّة الإسلاميّة، وهي تدخل في إطار السياق السياسيّ لا النصّ. «الحركة الإسلاميّة»، الّتي أخضعت المشاركة للنصّ الدينيّ – الشرعيّ، اتّجهت نحو تبنّي فكرة ’الجامعة الإسلاميّة‘ حاضنة للمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، بينما الحركة الّتي التصقت بالسياق السياسيّ بقي تصوّرها خاضعًا لهذا السياق، بتبنّيها حلّ الدولتين، وإبقاء فكرة ’الجامعة الإسلاميّة‘ تصوّرًا فكريًّا لا سياسيًّا؛ فبينما أخضعت الحركة الأولى السياسة للفكر، أخضعت الثانية الفكر للسياسة. وفي مراجعة للخطاب الإعلاميّ - السياسيّ للحركة الإسلاميّة قبل الانشقاق، في الإمكان، بيُسْرٍ، أن نلاحظ تباين التيّارين في الحركة الإسلاميّة، بين تيّار انتقد اتّفاق أوسلو من داخله - وهو نفس التيّار الّذي شارك في انتخابات الكنيست - والتيّار الّذي انتقده من خارجه - وهو التيّار الّذي قاطع الانتخابات.

انتقد «التجمّع» خطاب ’الدولتين لشعبين‘، من خلال تفكيكه، مركّزًا على دولة المواطنين بديلًا للدولة اليهوديّة. على وجه العموم، حلّ الدولتين لشعبين لم يكن في نظر حامليه تنظيرًا أيديولوجيًّا لإطار الدولة اليهوديّة والفوقيّة اليهوديّة، رغم أنّه يؤدّي إلى ذلك في نهاية الأمر؛ فعلى الأقلّ لم يَجْرِ توضيح مفهوم الدولتين لشعبين، الّذي استند تاريخيًّا وسياسيًّا - في نظر «الحزب الشيوعيّ» - إلى قرار التقسيم، وتؤكّد قيادته أنّ وثيقة المساواة في عام 1980 تشكّل تفسيرًا لتصوّرها لحلّ الدولتين لشعبين، وغياب التناقض بين هذا الحلّ والحقوق القوميّة للفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر.

ربط «الحزب الشيوعيّ» - الجبهة حلّ ’الدولتين لشعبين‘ بخطاب المساواة، وهو من وجهة نظره يشكّل استئنافًا على التمييز الواقع على المواطنين الفلسطينيّين في الداخل. أظهرت فترة ما بعد أوسلو أنّ خطاب المساواة، بصيغته الّتي كانت مطروحة قبل أوسلو، لا يشكّل استئنافًا جدّيًّا على الدولة اليهوديّة، وتفكيك طابعها التمييزيّ والتفوّق الإثنيّ والقوميّ. أظهر اتّفاق أوسلو أنّ الدولة اليهوديّة بدأت توغل في يهوديّتها، ولذا؛ نتج عن أوسلو خطاب «التجمّع» نحو دولة المواطنين، الّذي يقرن بين مكانة الفلسطينيّين في الداخل وطابع هذه الدولة اليهوديّ في الدرجة الأولى، وحلّ الدولتين في الدرجة الثانية. لم يطرح «التجمّع» خطاب دولة المواطنين بديلًا لحلّ الدولتين، بل استأنف على حلّ ’الدولتين لشعبين‘، موضّحًا التناقض بين المساواة وحلّ الدولتين لشعبين، ثمّ إنّ خطابه ألقى بظلاله على حركة «أبناء البلد» الّتي تحالفت مع حركة «ميثاق المساواة» (الّتي أسّسها الدكتور عزمي بشارة)، الّتي اعتبرت أنّ حلّ الدولة الوطنيّة الفلسطينيّة الواحدة بات غير واقعيّ في إطار أوسلو، أو على الأقلّ لن يكون سابقًا لحلّ الدولتين في إطار أوسلو. أمّا حركة «أبناء البلد» فلم تَعُد إلى حلّ الدولة الواحدة إلّا بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية.

جاءت انتفاضة القدس والأقصى نتاج خطاب سياسيّ رفض مشروع أوسلو على العموم، ولا سيّما أنّه لم ينظر إلى فلسطينيّي الـ48 على أنّهم جزء من القضيّة الفلسطينيّة ومن حلّها...

جاءت انتفاضة القدس والأقصى نتاج خطاب سياسيّ رفض مشروع أوسلو على العموم، ولا سيّما أنّه لم ينظر إلى فلسطينيّي الـ48 على أنّهم جزء من القضيّة الفلسطينيّة ومن حلّها، ولأنّه أجّل التباحث في قضايا تُعَدّ ثوابت إلى مراحل لاحقة (على سبيل المثال: قضيّة اللاجئين؛ القدس). أعاد هذا الخطاب الاعتبار إلى الصلة بين قضيّة الفلسطينيّين في إسرائيل والقضيّة الفلسطينيّة، منطلقًا من اعتبار الفلسطينيّين أصحاب وطن، وما ترتّب على ذلك من صعود لخطاب الحقوق الجماعيّة والمساواة الجوهريّة وتحدّي الطابع اليهوديّ للدولة، وهو الخطاب الّذي طرحه «حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ» برئاسة الدكتور عزمي بشارة، إلى جانب النشاطات السياسيّة والوطنيّة، الّتي تعتبر النكبة الفلسطينيّة جزءًا من صيرورة تاريخ الفلسطينيّين في إسرائيل، وتعزيز فكرة تنظيم المجتمع الفلسطينيّ على أسس جماعيّة وقوميّة. كذلك جاءت الانتفاضة الثانية بعد إعلاء خطاب القدس والأقصى، وتحويلهما إلى قضيّة حاضرة في الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ، وهو الخطاب الّذي رفعت رايتَه «الحركة الإسلاميّة» برئاسة الشيخ رائد صلاح، فضلًا على ظهور جيل جديد من القيادة الفلسطينيّة في الداخل انبثق عن الحركة الطلّابيّة الفلسطينيّة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وكان آنذاك جزءًا مهمًّا في النضال الطلّابيّ الّذي ميّزه الطابع السياسيّ والوطنيّ.

في المقابل، جاءت هبّة الكرامة في أيّار 2021 على الرغم من ضمور هذا الخطاب وتراجعه، وصعود خطاب سياسيّ يسعى إلى التأثير؛ عبر الاندماج في اللعبة السياسيّة الإسرائيليّة دون تحدّي جوهر النظام، علاوة على تراجع خطاب الحقوق الجماعيّة إلى خطاب الامتيازات الاقتصاديّة والقضايا اليوميّة فقط، وعدم ربطها بالمسألة الوطنيّة، والرهان على شراكة عربيّة يهوديّة تتعلّق بالمسائل المدنيّة والديمقراطيّة فقط، وتجلّى ذلك في التوصية على ﭼـانتس في آذار عام 2020، وعلى لـﭙـيد في نيسان عام 2021، والرغبة في دخول الحكومة، وخطاب «القائمة العربيّة الموحَّدة» في الانضمام إلى أيّة حكومة تنفّذ مطالب خدماتيّة عينيّة للمجتمع العربيّ، سواء أيمينيّة كانت أم يساريّة، وتهميش الموقف من القضيّة الوطنيّة.

أعادت الأحداث الأخيرة التفكير من جديد في مكانة الفلسطينيّين ودورهم في المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، حيث إنّ التجربة السياسيّة للفلسطينيّين في إسرائيل أكّدت أنّه لا يمكن فصل قضيّتهم عن مجمل القضيّة الفلسطينيّة، ولكن هذه المرّة ضمن خطاب سياسيّ أشمل لا يتعلّق بحقوقهم ونضالهم في الدولة اليهوديّة فحسب، بل يكون كذلك ضمن مجمل نضال الفلسطينيّين السياسيّ ضدّ المشروع الاستعماريّ الصهيونيّ.

 


قائمة المراجع

[1] عزمي بشارة، الخطاب السياسيّ المبتور ودراسات أخرى. (رام الله: مؤسّسة مُواطن، 1998)

[2] عزيز حيدر. الفلسطينيّون في إسرائيل في ظلّ اتّفاقيّة أوسلو. (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 1997). 

[3] كلّ العرب. بركة: علاقتنا بالحركة الوطنيّة على أساس التكافؤ لا التبعيّة. كلّ العرب، 2011. مستقاة من: https://www.alarab.com/Article/413098.

[4] Agbaria, Ayman, & Mustafa, Mohanad. Two states for three peoples: The ‘Palestinian-Israeli’ in the future vision documents of the Palestinians in Israel. Ethnic and Racial Studies, (2012). 35(4). Pp. 718-736.

[5] Rouhana, Nadim. Palestinian citizens in an ethnic Jewish State: Identities in conflict. (New Haven and London: Yale University Press, 1997).

 


 

مهنّد مصطفى

 

 

 

محاضر جامعيّ مختصّ في العلوم السياسيّة، ومدير عامّ «مدى الكرمل: المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة والتطبيقيّة».

 

 

 

التعليقات